كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك} فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك} وَهَذَا انْعِقَادُ عَزْمٍ، وَتَمَامُ قَوْلٍ، وَحُصُولُ مَطْلُوبٍ، وَنُفُوذُ عَقْدٍ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ؛ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ فَقَالُوا: لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ، إلَّا إلَى اللَّهِ.
فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمِلْكِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ زَوَّجَ الصُّغْرَى.
يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ سُئِلْت أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ: خَيْرَهُمَا وَأَوْفَاهُمَا. وَإِنْ سُئِلْت أَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلْ الصُّغْرَى وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ خَلْفَهُ، وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: عَادَةُ النَّاسِ تَزْوِيجُ الْكُبْرَى قَبْلَ الصُّغْرَى؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْهَا إلَى الْحَاجَةِ إلَى الرِّجَالِ، وَمِنْ الْبِرِّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا.
وَاَلَّذِي أَوْجَبَ تَقْدِيمَ الصُّغْرَى فِي قِصَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَعَلَّهُ آنَسَ مِنْ الْكُبْرَى رِفْقًا بِهِ، وَلِينَ عَرِيكَةٍ فِي خِدْمَتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا سَبَقَتْ الصُّغْرَى إلَى خِدْمَتِهِ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَحَنَّ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا، لِأَنَّهُ رَآهَا فِي رِسَالَتِهِ، وَمَاشَاهَا فِي إقْبَالِهِ إلَى أَبِيهَا مَعَهَا، فَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ الِاخْتِيَارَ، وَهُوَ يُضْمِرُ غَيْرَهُ، لَكِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ شَرْطَهُ لِيُبْرِئَهَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}.
فَذَكَرَ لَهُ لَفْظَ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الْمَنَافِعِ صَدَاقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ نُقِدَ مَعَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَدْ فَهُوَ أَشَدُّ، فَإِنْ تَرَكَ مَضَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْن الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ، وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: صَالِحُ مَدْيَنَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَتَهُ فِي غَنَمِهِ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ فُلَانَةَ خِدْمَةَ فُلَانٍ، وَلَكِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا عِوَضٌ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ لِصَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَجَعَلَهُ صَدَاقًا لِابْنَتِهِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ بِجُعْلٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى: لَا يَجُوزُ، وَلَا كِرَاءَ لَهُ، وَلَا أُجْرَةَ مِثْلِهِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْإِسْلَامُ بِخِلَافِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جُعْلٌ، إنَّمَا فِيهِ إجَارَةٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُهُ؛ بَلْ فِيهِ جَوَازُهُ فِي قِصَّةِ الْمَوْهُوبَةِ، وَهُوَ يُجَوِّزُ النِّكَاحَ بِعَدَدٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ؛ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى تَعْلِيمِ عِشْرِينَ سُورَةٍ.
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ: «عَلِّمْهَا عِشْرِينَ سُورَةً، وَهِيَ امْرَأَتُك».
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ.
وَنَزَعَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مَالٌ كُلُّهُ.
وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا بِالْمَالِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَالصَّدَاقُ بِالْمَنَافِعِ إنَّمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ؛ فَمَنَافِعُ الْأَحْرَارِ وَمَنَافِعُ الْعَبِيدِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ الْأَصْلُ، وَيُحْمَلُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلٍ سَاقِطٍ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً فَفِي قَوْلِهِ: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} ذِكْرٌ لِلْخِدْمَةِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ جَائِزٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ لِمَنَافِعِهِ فِيمَا يُصْرَفُ فِيهِ مِثْلُهُ، وَالْعُرْفُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَيَقْضِي بِهِ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ.
وَيُعْضَدُ هَذَا بِظَاهِرِ قِصَّةِ مُوسَى فَإِنَّهُ ذِكْرُ إجَارَةٍ مُطْلَقَةٍ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ رَعِيَّةَ الْغَنَمِ، وَلَمْ يَرْوُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ قَالُوا: إنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ إلَّا رَعِيَّةَ الْغَنَمِ، فَكَانَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ قَائِمًا مَقَامَ تَعْيِينِ الْخِدْمَةِ فِيهِ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَنَا؛ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يُسَمَّى.
وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَكْفِي مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ، وَمَا قَامَ مِنْ دَلِيلِ الْعُرْفِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي الْخِدْمَةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَدَلِيلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ.
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ قَبْلُ، وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنْ كَانَ آجَرَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، أَوْ مُسَمَّاةً بِعِدَّةٍ، أَوْ مُعَيَّنَةً.
فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ لِجَهَالَتِهَا.
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْعُرْفِ، وَأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُ قُوَّتُهُ.
وَزَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْرَ قُوَّتِهِ.
وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ قَدْ عَلِمَ.
قَدْرَ قُوَّةِ مُوسَى بِرَفْعِ الْحَجَرِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا.
وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً مُعَيَّنَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِعُلَمَائِنَا.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْخَلْفَ إنْ مَاتَتْ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ اسْتَأْجَرَ صَالِحُ مَدْيَنَ مُوسَى عَلَى غَنَمِهِ، وَقَدْ رَآهَا وَلَمْ يَشْرِطْ خَلْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي [كَانَ] جَرَى مِنْ صَالِحِ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَةِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ فَإِنَّهَا تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا، وَتَقُولُ: لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي قُلْنَا: هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ هُوَ حُلْوَانُ وَزِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَهُوَ حَرَامٌ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ.
فَأَمَّا إذَا شَرَطَ الْوَلِيُّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يُخْرِجُهُ الزَّوْجُ مِنْ يَدِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَائِزٌ.
وَالْآخَرُ: لَا يَجُوزُ.
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِيهِ التَّقْسِيمُ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا بِيَدِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعِوَضُ عَنْهُ، كَمَا يَأْخُذُهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ.
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْدُ بِيَدِهِ، فَكَأَنَّهُ عِوَضٌ فِي النِّكَاحِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَثَبَتَ بَعْدَهُ عَلَى مَشْهُورِ الرِّوَايَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ صَالِحِ مَدْيَنَ عَلَى مُوسَى مَهْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ، وَتَرَكَ الْمَهْرَ مُفَوَّضًا.
وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ.
قُلْنَا: كَانَتْ بِكْرًا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يُظَنُّ بِالْفُضَلَاءِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لَمْ يُنْقَلْ مَا كَانَتْ أُجْرَةُ مُوسَى، وَلَكِنْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ أَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ جَعَلَ لِمُوسَى كُلَّ سَخْلَةٍ تُوضَعُ خِلَافَ لَوْنِ أُمِّهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى: أَلْقِ عَصَاك بَيْنَهُنَّ يَلِدْنَ خِلَافَ شَبَهِهِنَّ كُلِّهِنَّ.
وَاَلَّذِي رَوَى عُتْبَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ السُّلَمِيُّ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ أَوْفَى مُوسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفَاهُمَا وَأَبَرُّهُمَا.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا عَنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنِ ذَلِكَ الْعَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا وَرَدَتْ الْحَوْضَ وَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَمُرَّ بِهِ شَاةٌ إلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا بِعَصَا، فَوَضَعَتْ قَوَالِبَ أَلْوَانٍ كُلِّهَا اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ مِنْهُنَّ فَشُوشٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا كَمِيشَةٌ وَلَا ثَعُولٌ».
الْفَشُوشُ: الَّتِي إذَا مَشَتْ سَالَ لَبَنُهَا.
وَالضَّبُوبُ الَّتِي ضَرْعُهَا مِثْلُ الْمَوْزَتَيْنِ.
وَالْكَمِيشَةُ: الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ الَّتِي لَا يَضْبِطُهَا الْحَالِبُ.
وَالْقَالِبُ لَوْنُ صِنْفٍ وَاحِدٌ كُلُّهُ.
وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَهِيَ الْوَحْيُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ، أَوْ بِأَنْ يُكَلِّمَهُ الْمَلَكُ كَهَيْئَةِ الرَّجُلِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ هَدَاهُ فِي طَرِيقِهِ لِمَدْيَنَ حِينَ ضَلَّ وَخَافَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ نَبِيًّا، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ وَيُخْبِرُهُ بِأَمْرٍ مُشْكِلٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ.
الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْإِجَارَة بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنَّ مِنْ الْبِلَادِ الْخِصْبَةِ مَا يُعْلَمُ وِلَادَةُ الْغَنَمِ فِيهَا قَطْعًا، وَعِدَّتُهَا، وَسَلَامَةُ سِخَالِهَا؛ مِنْهَا دِيَارُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا، بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ الْغَرَرِ»، وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا فِي بِلَادِ الْخِصْبِ لَيْسَ بِغَرَرٍ، لِاطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَهَى عَنْ الْغَرَرِ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ.
وَالْمَضَامِينُ: مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَالْمَلَاقِيحُ: مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابٍ حَامِلٍ عَلَى أَنَّ مَعْمَرَ بْنَ الْأَشَدِّ أَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْغَنَمِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: يَنْسِجُ الثَّوْبَ بِنَصِيبٍ مِنْهُ.
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
وَقَرَأْت بِبَابِ جَيْرُونَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الرَّئِيسِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ فُضَيْلٍ الدِّمَشْقِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آجَرَ مُوسَى نَفْسَهُ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ. فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ: لَك مِنْهَا يَعْنِي مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ قَالِبُ لَوْنٍ وَاحِدٌ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ، لَيْسَ فِيهَا عَزُورٌ، وَلَا فَشُوشٌ، وَلَا كَمُوشٌ، وَلَا ضَبُوبٌ، وَلَا ثَعُولٌ.
الْعَزَوَّرُ: الَّتِي يَعْسُرُ حَلْبُهَا.
وَالثَّعُولُ: الَّتِي لَهَا زِيَادَةُ حَلَمَةٍ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهَا.
وَقَدْ كَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ غُلَامٌ يَخْدِمُهُ، بِشِبَعِ بَطْنِهِ.
وَجَوَّزَ ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ قَالَ لِبِنْتِ صَالِحِ مَدْيَنَ فِي الْغَنَمِ حِصَّةٌ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، صَدَاقًا لَهَا بِمَا كَانَ لَهَا مِنْ الْحِصَّةِ فِيهَا.